في جو من التناقض، ميزته خيبة أمل عامة، انتشر خبر موافقة سكان قرية أم الحيران، مسلوبة الاعتراف في منطقة النقب، جنوبي البلاد، على عقد اتفاق بينهم وبين ما يسمى "سلطة توطين البدو"، يقضي بإخلاء قريتهم أم الحيران وانتقالهم إلى قرية حورة، لتقام مكانها مستوطنة يهودية "حيران".

وكان القضاء الإسرائيلي قد قرر بعد سنوات من نضال أهالي أم الحيران في أروقة المحاكم، أنه على أهالي قرية أم الحيران إخلاء القرية، بشكل كامل، بدءا من تاريخ 15.4.2018 ولغاية تاريخ 30.4.2018 كحد أقصى، وإلا سيتم اقتلاعهم وتهجيرهم بالقوة.

سنوات من النضال الشعبي للاعتراف بقرية أم الحيران ومنع تهجير أهلها، قدّم فيها النقب شهيدا وعشرات المصابين والمعتقلين، انتهت بنتيجة قد نختلف على تصنيفها عند دراسة ظروف التجربة، ويزداد الخوف فينا من أن تكون مقدمة لنزع صمود قرى أخرى بالنقب.

الشهيد أبو القيعان وتشييعه المهيب (أرشيفية)

الخذلان من القيادة واليأس الجماهيري في مقابل جرافات الهدم وظلم السلطات الإسرائيلية، تنتهي بتهجير أهالي قرية أم الحيران، بعد حرمانهم من أبسط مقومات العيش، إلى قرية حورة المعترف بها، تنفيذا لسياسة التهويد الكاملة التي تقضي بتهجير عرب النقب من القرى مسلوبة الاعتراف وتجميعهم في القرى المخططة، على أقل مساحة ممكنة.

الخلفية

أقيمت قرية عتير- أم الحيران بأمر من الحاكم العسكري في العام 1956، بعد أن هجّر الجيش الإسرائيلي أهلها بالقوة من مساكنهم في منطقة وادي زُبالة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يُهجّر أبناء عشيرة أبو القيعان، إذ هُجروا في العام 1948 من مساكنهم إلى منطقة خربة الهزيّل ومن ثم هُجروا إلى منطقة كحلة وأبو كف. وفي العام 1956 هُجروا للمرة الثالثة إلى منطقة وادي عتير التي يسكنون بها اليوم. وتلقى السكان آنذاك وعودًا من الحاكم العسكري في المنطقة بأن هذه المرة ستكون المرة الأخيرة التي يُجبرون فيها على الاقتلاع والتهجير.

أقام أبناء العشيرة قريتهم وبيوتهم الثابتة من الطوب والإسمنت في هذه عتير- أم الحيران، واستثمروا كل جهودهم من أجل استئناف حياتهم الاجتماعية التي كانت تتزعزع في كل مرة يُهجرّون فيها.

ويعيش في أم الحيران، اليوم، 150 عائلة ويبلغ عدد سكانها قرابة ألف نسمة، جميعهم من عشيرة أبو القيعان.

المُخطط

أصدرت أوامر الهدم الأولى لقرية أم الحيران في العام 2002، وفي تاريخ 30.7.2009 أصدرت للمرة الأولى محكمة الصلح في بئر السبع قرار يأمر بإخلاء السكان من بيوتهم في أم الحيران لغرض هدمها.

كُشف هذا القرار لأول مرة عند سؤال محامي عدالة- المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في البلاد، الذي وجهه لقاضي المحكمة "ما هي المصلحة الجماهيرية المُكتسبة من هدم أم الحيران؟"، كان الجواب "وجود مخطط لبناء مستوطنة يهودية على أنقاض القرية".

المجتمع الدولي

"حالة أبرتهايد واضحة" هكذا وصف الإعلام العالمي والعربي مخطط إقامة مستوطنة "حيران" اليهودية على أنقاض قرية أم الحيران العربية.

دعمت هذا التوجه مؤسسات ناشطة في العمل المدني والدولي. تضاعف الضغط الدولي في السنوات التي التقت فيها معركة "برافر" في النقب مع حالة أم الحيران، وعبّر المجتمع الدولي عن امتعاضه من ممارسات إسرائيل، كان ذلك عبر تصريحات دبلوماسيين عالميين بالإضافة لتعبير دول مثل ألمانيا، سويسرا وبريطانيا، عبر سفاراتها في تل أبيب عن قلقها إزاء وضع حقوق الإنسان في إسرائيل وحول قضية أم الحيران بشكل خاص، بالإضافة إلى موقف حزب العمال البريطاني وآخرين، ونعتت دول أخرى مثل جنوب أفريقيا إسرائيل بأنها "دولة أبرتهايد مع مواطنيها".

وصل الضغط العالمي على إسرائيل قمته عبر نشر الأمم المتحدة تقريرا ينص على أن " إسرائيل تمارس الأبرتهايد-الفصل العنصري" وتطرق التقرير إلى "إخلاء أم الحيران لبناء حيران اليهودية كحالة أبرتهايد"، وذلك في تاريخ 15.3.2017.

المعركة

تصدرت أم الحيران وعتير عناوين النشاط الشعبي والعمل النضالي المُقارع لممارسات السلطات الإسرائيلية في أراضي 1948 لسنوات، على أساس أنها استمرار لمعركة الفلسطيني على ما تبقى من أرضه، وحازت على حضورها في الوعي الشعبي، لكن ظهرت الإشكاليات وصعوباتها واضحةً في السنوات الماضية.

عند تقييمنا للتجربة نرى أن الجميع سمع عن أم الحيران، لكن القليل فقط تواجد فيها.

لم يرتق التفاف العرب الفلسطينيين في أراضي 48 حول قضية أم الحيران إلى مستوى الحدث.

تعاملت قيادات المجتمع العربي وعلى رأسها لجنة المتابعة العليا والقائمة المشتركة واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية والحركات والأحزاب السياسية مع القضية عبر تنظيم الزيارات الرسمية وبوفود تضامنية تماما كما يجري في فعالياتها في ذكرى يوم الأرض، تعامل وفق الحد الأدنى ليس إلا.

تعددت المواقف في لجنة المتابعة وكانت القيادة هي جمهور نفسها الوحيد خلال نشاطاتها في النقب، حضرت القيادة وغابت الجماهير.

أسقطت لجنة المتابعة مهمة مقارعة مخطط "حيران اليهودية" على لجنة التوجيه لعرب النقب، وعلى مدار سنوات من الصمود، لم ينظم في أم الحيران أي نشاط مركزي، بل خرجت المتابعة بفكرة النشاطين المركزيين، الرئيسي في شمالي البلاد والآخر في النقب، مثل نشاط يوم الأرض 2017 و2018).

كان واضحا للجمهور أن جزءا من القيادات تعمل على أساس المحاولة لحفظ ما تبقى من ماء الوجه فقط، واستغباء عقول الجماهير من بعض الأطراف، ومن تلك المشاهد قيام نائب بنصب لافتة على مدخل أم الحيران تحمل عبارة "أم الحيران ترحب بكم"، لم يحضر بعدها إلى أم الحيران سوى مرات قليلة، وحذّر نواب عرب الحكومة كثيرا من غضب الشارع العربي، لكنهم لم يدعوا لمظاهرة واحدة على الأقل.

وبدورها نظمت القيادة المحلية، ممثلة في لجنة التوجيه العليا لعرب النقب، نشاطات لنصرة أم الحيران كانت في معظمها هزيلة مقارنة بحجم القضية، رغم تصوير القيادة المحلية في النقب للنشاطات قبل حصولها على أنها ستكون ضخمة وهائلة، لكن الفشل لاحق الفشل في تجنيد الشارع للاحتجاج. لم يكن هناك من يتحمل مسؤوليته، والكل تنكر للنتائج، وذهبت تهديدات النواب العرب بالمطالبة "بحماية دولية لأهل النقب" أدراج الرياح!

جنازة شهيد أم الحيران (أرشيفية)

الانفجار

اقتحمت قوات مدججة من الشرطة الإسرائيلية والوحدات الخاصة التابعة لها أم الحيران، قتلت برصاصها الشهيد المربي يعقوب أبو القيعان، بدم بارد، وهدمت 12 منزلا و8 منشآت زراعية في 18.01.2017.

تُرك جثمان الشهيد داخل سيارته المحاصرة بقوات من الشرطة والوحدات الخاصة، منعت أهله من الاقتراب من المكان.

سادت أجواء الغضب العام والاستنفار لأيام طويلة، وتواجد الآلاف من أهل النقب والمجتمع العربي في القرية.

أدار أهل النقب معركة استنزاف مع قتلة المربي أبو القيعان من أجل تحرير جثمان الشهيد لتشييعه ودفنه، وحُرّر الجثمان بعد عناء ومعاناة طويلة.

شارك في الموكب الجنائزي المهيب للشهيد المربي أبو القيعان عشرات الآلاف من النقب والجليل والمثلث والمدن الساحلية، ممن استطاعوا الوصول إلى المقبرة عبر الطرق الجبلية، وذلك بسبب تضييق الشرطة وإغلاقها الشوارع الرئيسية ومنع الآلاف من الوصول للمشاركة في الجنازة.

فرض أهل النقب سيادتهم على أرضهم خلال معركة "دفن الشهيد"، غير أنه برز تخاذل وخنوع بعض القيادات السياسية وخصوصا عندما حاولت منع المشيعين من الهتاف للشهيد، والإصرار على نقل الجثمان في سيارة لغاية الضريح، ولم يُحمل على الأكتاف إلا لمسافة قصيرة رغم رفض الجماهير واحتجاجها، وحاول البعض منع رفع العلم الفلسطيني!

سرعان ما انطفأت ثورة الغضب الشعبية بمواراة الشهيد الثرى، وتحولت إلى أيام حزن وأسى حلت على النقب والمجتمع العربي.

لم تستطع القيادة استخدام الزخم الجماهيري واستثماره، ولا ترجمة الغضب الشعبي إلى فعل سياسي.

لم تكسب أم الحيران أرضها بتضحية المربي يعقوب أبو القيعان بروحه، هي فقط خسرت ابنا لها.

النتيجة

تُستخلص عبرٌ كثيرة من معركة أم الحيران، منها أن التضامن العالمي، وإن لم يعد بنتيجة ملموسة في أرض الواقع، فقد كان حجمه أكبر من الإسناد الفلسطيني في أراضي 48 مع أم الحيران، بالإضافة إلى فشل القيادة السياسية، قطريا ومحليا، في لعب دورٍ جدي وفعال في تغيير الواقع. والمقلق في الأمر أن طريقة العمل على مدار سنوات النضال، كانت تشير إلى أن هناك عدم رغبة بالعمل أو رغبة في الفشل، أو ربما نقص قناعة لدى القيادة نفسها بقدرتها على النجاح، ففي العديد من المواقف لم تبذل المجهود الأولي حتى على صعيد النشر الاعلامي.

حظيت قضية أم الحيران، في مراحلها الطويلة، باحتمالات أكبر للنجاح وتسطير نصر للإرادة الشعبية الفلسطينية في أراضي 48، كما حدث في معركة رفض مخطط "برافر" الاقتلاعي، غير أن القيادة السياسية في الداخل الفلسطيني فشلت في التعامل مع الرأي العالمي واستغلال صورة الأبرتهايد- الفصل العنصري، الواضحة في حيثيات قضية أم الحيران، كما فشلت في تسخير الغضب الشعبي على جريمة إعدام قتل الشهيد أبو القيعان، وتحويله إلى حالة احتجاج شعبية ضد هدم البيوت والملاحقة السياسية وممارسات القهر والتضييق العنصرية التي تنتهجها السلطات الإسرائيلية تجاه العرب الفلسطينيين في البلاد.

تُركت أم الحيران وحيدة، وتُرك النقب وحيدا في هذه المعركة!

اقرأ/ي أيضًا | عدالة: هدم أم الحيران وتهجير أهلها سياسة استعمارية عنصرية